تداعيات : يحيي فضل الله _ عصر البلاستيك

70

 

طار الحمام مرعوبا من البرج القريب ، الأغنام ارتبكت داخل الزريبة ، حمار “عباس ” الأبيض الطويل لم يملك تجاه الأمر إلا النهيق ، ارتبك أهل البيت اثر تلك الولولة التي قذفت بها ” الرضية بت حمد ” في وجه ذلك الصباح الشتوي ,” عباس استيقظ مذعور لدرجة أنه تعثر وسقط حين حاول الخروج من الغرفة, قطعت ” بت المنى ” صلاتها وركضت نحو غرفة ” الرضية بت حمد ” ، ,, عطا المنان ,, حاول ان يتناوم و ان يتعامل مع الامر بحياد ،لكنه عجز تماما في تجاهل تلك الولولة فنهض مهتما بالامر ، من فم ولدها الرضيع سحبت ,, عواطف ,, حلمة ثديها ليختلط احتجاج المولود بولولة ,,الرضية ,, ، تناولت ثوبها وخرجت ، استيقظ الأطفال مذعورين في ذلك البيت الكبير الذي يضم كل ما تبقى من عائلة ” حمد ود السايح ” .
إثر تلك الولولة التي تنبعث دون توقف من حجرة الجدة الكبيرة ” الرضية بت حمد ” تجمع كل أهل البيت داخل حجرتها ، كانت تولول وتشير بيدها إشارات تتناغم مع ولولتها ، كانت تجلس على عنقريب الجلد القديم متدثرة بقطع مختلفة من الملابس القديمة ، يبدو عليها رعب حقيقي ، كان الجميع ينظرون اليها دون أن يفهموا الذي يحدث أمامهم سوى انه حالة من حالاتها الغريبة ، تداخلت أصوات ” عـطا المنان ، و ” عبـاس ” و ” بت المنى ” و ” عواطف ” مع ولولة ” حبوبة الرضية ” التي يبدو انها لم تلاحظ حتى وجودهم ، اقترب منها ” عباس ” جلس بالقرب منها ، حاول أن يربت على ظهرها محاولاً تهدئتها لكنها صرخت مذعورة .
” حبوبة ” ، ده أنا عباس ”
” عباس ؟ عباس منو ؟ ”
من بين ولولتها تساءلت ” الرضية بت حمد ”
” أنا عباس , عباس يا حبوبة ، عباس ود العطا ولدك الله يرحمه ”
” ها العوير ده ، هو العطا عرس لامن يبقى عندو وليد, قوم من جنبي ” .
وازدادت الولولة وتداخلت فيها صرخات حادة صغيرة ، كان الأطفال يضحكون بسرية معلنة تجاه الأمر ، نهض ” عباس ” من حيث يجلس بقربها ، انفعلت ” بت المنى ” وصرخت في وجه الجدة الكبيرة
” هي لكن يا حبوبة ما تورينا مالك ، من الصباح مدخلة فينا الخلعة دي مالك ؟ هي لكين ما تسكتي وفهمينا الحاصل ” ، نظرت اليها ” الرضية بت حمد ” بريبة من بين ولولتها المستمرة ، ” عطا المنان ” اقترب منها ، حاول أن يلاطفها لكنها زجرته دون أن تتخلى عن ولولتها, ” عواطف ” اقتربت منها وبحنان واضح جلست بقربها ، أحاطتها بذراعيها وهمست في أذنها : “حبوبه عليك الله مالك بتكوركي من الصباح ؟ ”
نظرت اليها ” الرضية “, سكتت عن الولولة واحتضنت “عواطف ” قائلة:
” كنت وين يا بتول ؟ ”
” أنا عواطف يا حبوبة, عواطف بت بتول ”
” أنا كمان بتي بتغباني ما ياكي بتول ”
” هي لكين أنا ما بتول ، أنا عواطف بتها, أنا بت بتول بتك ”
” اياكي بتول ، بتول الممسوخة ، تعالي بي جاي ”
استجابت ” عواطف ” لجدتها التي توقفت عن ولولتها الغريبة ، اقتربت منها أكثر وقالت متقمصة دور والدتها ” بتول ” حتى تعرف سبب هذه الولولة .”
” سمح يمة ، مالك بتكوركي من الصباح ؟, ”
عادت ” الرضية بت حمد ” إلى ولولتها الغامضة إثر تساؤل ” عواطف ” ، خرج ” عباس ” من الغرفة بخطوات يائسة تبعه ” عطا ” , إنها حالة من حالات الجدة الكبيرة ، ” عواطف ” لا زالت تحاول استثمار ملامح والدتها فيها وتطارد جدتها بالتساؤلات بينما ” الرضية ” تكثف أكثر من ولولتها ، أمام إلحاح ” عواطف ” المتسائل ومن بين ولولتها قالت الرضية بت حمد ” .
” الاوضة دي مسكونة يا بتول ، مسكونة بي ناس بسم الله ، النار الولعتها عشان ادفي لي موية أتبرد بيها وحاتك طفوها ، أنا الاوضة دي ما بسكن فيها ، بري بري ما بسكن فيها ، ما بسكن فيها . ”
واستمرت الرضية بت حمد ” تولول وتولول .
طمأن ” عباس ” و “عطا ” الجيران الذين جلبتهم الولولة ، استعد كل أهل البيت لإجراء عملية ترحيل ” الرضية بت حمد ” من غرفتها التي رفضت السكن فيها ، نقلت محتويات الغرفة بعد أن تم ترحيل ” الرضية بت حمد ” الجدة الكبيرة التي تجاوز عمرها السبعين مؤقتا داخل ” راكوبة ” … ” الراكوبة ” التي أمام ” التكل “, توقفت ولولتها وهي جالسة هناك في ” الراكوبة ” تحاول أن تتابع ترحيل مقتنياتها البسيطة والقديمة . عنقريب جلد ، برش قديم واواني نحاسية مختلفة ، فروة ، صندوق خشبي متهالك ، بينما كانت تتابع تفاصيل ترحليها الي غرفة أخرى كان ذهنها يرحل الي حيث يمكن أن تختلط عليها الأزمنة، تحادث نفسها ،تضحك، تتهجم، تنادى أشخاصا هم خارج الوجود، خارج الزمان، خارج المكان، تترنم بأهازيج منسية وقديمة، تبعث بضفائرها البيضاء وتنادي أحد أولئك الأطفال الذين لم تستطع الاحتفاظ حتى بملامحهم ، دعك من أسمائهم .
” تعال يا ضنايا ”
“أي يا حبوبه ”
“أجرى أمشى سوق الأربعاء ،اجري جري ، نادي لي جدك ودالسايح،
” لكين يا حبوبه الليلة الأحد ما الأربعاء .
” يا ولد الأربعاء , يا ولد الليلة الأربعاء ، عليكم النبي شوفوا مغصة الولد ده، اجري نادي جدك بقول ليك من السوق ”
ويجري الطفل متظاهراً بالاستجابة ومتخلصا من ذلك النقاش الذي هو خارج المعقول لانه يعرف تماما أن جده “ود السايح” قد مات منذ زمن بعيد “.
في أثناء ترحيل محتويات غرفة “الرضية بت حمد” اكتشفت “عواطف” الامر اخيراً، ولم تملك ألا أن تضحك، كانت الجدة الكبيرة قد حاولت أن تستحم رغم برد الصباح ، أشعلت النار وملأت الجردل إلى نصفه ووضعته علي النار , كان الجردل من البلاستيك فكان أن عجز عقل الجدة” “الرضية بت حمد ” عن فهم الامر ، فولولت خوفا من الشيطان ذلك الذي أذاب الجردل وأطفأ النار .

التعليقات مغلقة.

error: Content is protected !!