عثمان ميرغني يكتب : “اجعله يبدو كحادث عادي”

72

 

فيلم أمريكي اسمه ”غيبوبة“ يحكي عن فساد في إدارة مستشفى، تتعمد حقن بعض المرضى خلال العمليات الجراحية بمادة تؤدي إلى ”غيبوبة“ مستدامة، ثم بعد يأس أهل المريض من عودته للحياة، تبيع المستشفى أعضاءه بأثمان باهظة.

في الفيلم الأمريكي، يكتشف أحد الكوادر الطبية المؤامرة، فتقرر إدارة المستشفى تصفيته وتوكل المهمة لأحد العمال في غرفة الكهرباء..

وفي لحظة تنفيذ التصفية في غرفة المحولات الكهربائية، يدلق العامل سطلاً من الماء على الكادر المطلوبة تصفيته، ثم يقول له وهو يدفعه بقوة نحو محول كهربائي ضخم: ”لقد قالوا لي اجعله يبدو كحادث عادي“.

في السودان، وبالتحديد يوم الثلاثاء 26 أكتوبر 2021، بعد يوم واحد من سيطرة المكون العسكري على السلطة كاملة، عقد الفريق الأول عبدالفتاح البرهان مؤتمراً صحفياً ليشرح فيه دواعي التحرك العسكري..

وفي سياق حديثه المستفيض للإعلام، ألقى بجملة لم ينتبه إليها الصحفيون، هي أشبه بما قاله العامل في فيلم ”غيبوبة“ الأمريكي، قال البرهان للصحفيين: ”لن يحكم السودان بعد اليوم حزب عقائدي“.

عبارة ”حزب عقائدي“ يُقصد بها سياسياً أحزاب محددة، هي أحزاب الإسلام السياسي، والحزب الشيوعي، وحزب البعث. بقية الأحزاب إما أنها لا تصنف ”عقائدية“، أو كحزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي لاستنادهما إلى طائفتين دينيتين هما الأنصار والختمية، لكونهما طرقا صوفية أقرب إلى المكونات المجتمعية غير المسيسة.

لم يكن خافياً أن الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الأوروبية، وضعت ثقلها خلف الثورة السودانية، فهي من جهة خلصتها من نظام متطرف معاد متسلط، ومن جهة أخرى فتحت لها أبواباً واسعة للتعاون..

لكن هذه الدول لم تكن سعيدة بأن يتحول نظام الحكم من أقصى اليمين الإسلامي إلى أقصى اليسار، خاصة بعد نمو نفوذ الحزبين الشيوعي والبعث في السودان

أدرك الحزب الشيوعي هواجس تلك الدول الكبرى، فأخرج نفسه مبكرا تُقية من التحالف الحاكم (الحرية والتغيير) رغم احتفاظه بكوادره في مفاصل الحكومة الرئيسية لضمان التأثير على مستقبل الدولة السودانية.

لكن في المقابل، لم ينتبه حزب البعث للمأزق السياسي، فاستثمر فارق الخبرة السياسية والقدرات التنظيمية والتكتيكية التي تتميز بها كوادره عن بقية الأحزاب الشابة، مثل المؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي، فأوغل في السلطة حتى بات الحزب الحاكم إلا قليلا..

وأصبح بذلك الأستاذ على الريح السنهوري، أمين سر حزب البعث العربي الاشتراكي، العقل المدبر والمحرك الأساسي للدولة كلها من وراء حجاب.

ووصلت طموحات حزب البعث في تسنم المشهد السياسي السوداني أن تَطلّع للدفع بالبروفسيور صديق تاور، عضو مجلس السيادة الانتقالي، ليكون خليفة محتملا للفريق الأول عبدالفتاح البرهان في رئاسة مجلس السيادة.

لكن الدول الأكثر تأثرا وتأثيرا بالأوضاع في السودان، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تنظر لدماء آلاف الجنود الذين فقدتهم في العراق ومئات المليارات من الدولارات التي دفعتها ثمنا للإطاحة بحزب البعث، ثم ترى بأم عينها كيف أن بذرة جديدة تنمو لدولة يصعد فيها حزب البعث إلى سنام السلطة.. مشهد أشبه أن تحارب أمريكا لعشرين سنة طالبان في أفغانستان ثم تدعمها في السودان.

الرسالة كانت واضحة من المجتمع الدولي للسودان ”اجعلوه يبدو كتحرك عسكري عادي“، أشبه بعبارة فيلم ”غيبوبة“: ”قالوا لي اجعله يبدو كحادث عادي“.

في المشهد السوداني، أنجز الشق الأول بمباركة دولية، وهو إزاحة الأحزاب المقصودة من المشهد، ثم يكتمل الجزء الثاني بالدعوة لانتخابات معلوم أنها لن تأتي بالأحزاب العقائدية من اليمين واليسار، فتكون النتيجة استبعاد الأحزاب العقائدية يمينا ويسارا ومنعها من الاقتراب من السلطة في السودان.

التعليقات مغلقة.

error: Content is protected !!