أمريكا خطوات مرتبكة تجاه الخرطوم ومقترحات متوقعة
الخرطوم / أحمد طه صديق – الإنتباهة
بالرغم من أن الفريق إبراهيم عبود استولى على السلطة في السودان عبر إنقلاب عسكري في العام 1958م واستمر ست سنوات الا أن الولايات المتحدة آنذاك لم تجد حرجاً من دعمه إقتصادياً عبر مشروعات المعونة الأمريكية وكان أبرزها تشييد طريق ود مدني الخرطوم ، وفي تلك الحقبة كانت الولايات المتحدة عن طريق مخابرتها القوية ) CIA) تقوم بتدير إنقلابات في الدول الإفريقية عن طريق استخدام وسائل الإختراق والاستقطاب للجنرلات العسكريين الطامعين في السلطة والثروة غير أن البيت الأبيض أعاد النظر لاحقاً في تلك السياسية (البرغماتية) المناهضة للقيم الديمقراطية التي ظلت ترفع شعارتها الولايات المتحدة منذ تأسيسها حيث لجأت بعد ذلك إلى سياسة الاستقطاب واستخدام الجزرة والعصا للتأثير على سياسات دول المنطقة الإفريقية والعربية ولجأت الإدارة الأمريكية إلى ممارسة ضغوط ناعمة لإجبار تلك الحكومات المستبدة المدعومة من قبلها بمارسة قدر معين من الديمقراطية وتوسيع المشاركة السياسية حتى لا تتمكن القوى (الرايدكالية) يسارية أو قومية متشددة من التأثير على موازين السياسية في تلك المنطقة مما يزيل عنها الحرج النسبي أمام المنظمات الحقوقية وبعض مناصري الديمقراطيات في الكونغرس .
وعندما إشتعلت ثورة أكتوبر الشعبية في السودان 1964م واستلمت مقاليد الحكم بعد الفترة الإنتقالية القصيرة حكومة مدنية منتخبة لم تحظ بالدعم الأمريكي المتوقع بالرغم من تلك الحكومة بسطت قدراً كبيراً من الحريات وراعت حقوق الإنسان واستقلال القضاء بصورة غير معهودة في المنطقة كلها لكنها مع ذلك لم تنل رضا البيت الأبيض آنذاك سيما بعد أن تبنت الحكومة في عام 1967م في أعقاب ما يعرف بالنكسة العربية حين إنقض الطيران الاسرائيلي على الطائرات المصرية ودمرها وإحتلت عدة مناطق حيوية في كل من مصر وسوريا فعمدت حكومة الخرطوم وقتها على تنظيم مؤتمر قمة عربية شارك فيها الرئيس المصري جمال عبد الناصر وخرج المؤتمربما يعرف باللاءات الثلاث التي رفض فيها الصلح بل حتى التفاوض مع إسرائيل وشكل المؤتمر دعماً كبيراً وأجرى مصالحات عربية مع دول تعتبرها الولايات المتحدة حليفةً لها مثل السعودية ، وسببت تلك الخطوة مزيد من الجفوة في علاقة الخرطوم مع الولايات المتحدة .
أمريكا والنميري
وحين استولى اللواء آنذاك جعفر نميري السلطة في عام 1969م تبنى سياسة يسارية (رايدكالية) بدعم شعبي لم يدم طويلاً من الحزب الشيوعي حيث أن طبيعة النميري التي تتمرد على القوالب الأيدلوجية والفكرية بل أية منظومة تحد من نهجه الفردي في الحكم لم تكن تجعله يدور في أي من القوالب المقيدة والممنهجة فكان يرفض أي نوع من الوصاية السياسية والفكرية الأمر الذي جعله يرفض التقارب مع الحزب الشيوعي فقام بإعدام قادته المدنيين والعسكريين الذين إنقلبوا عليه عبر إنقلاب عسكري بيد أن تلك الدموية لم تمنع الولايات المتحدة الخصم اللدود للشيوعية والمناوئه للمعسكر الشيوعي بزعامة الإتحاد السوفيتي أن تحجم عن التقارب مع نظام النميري وتحل بديلاً وحليفاً جديداً له في منطقة مهمة مثل السودان فقدمت الولايات المتحدة دعماً سخياً لحكومة الخرطوم بعد توقيع إتفاقية أديس أبابا رغم أن العلاقات الدبلوماسية كانت لم تزل مقطوعة بين البلدين ، غير أن ذلك الدعم شجع النميري لاستئناف العلاقات مع الولايات المتحدة حيث تطورت لاحقاً حتى في المجالات العسكرية ولم يمارس البيت الأبيض أي نوع من الضغوط على حكومة النميري الاستبدادية ولم تعترض على فوزه في إنتخابات من جانب واحد أعلن فيها فوزه بنيبة 99% أسوةً بكل حكام المنطقة الدكتاتوريين .
العلاقات مع حكومة الصادق المهدي
وعندما أطيح بالنميري في إنتفاضة أبريل 1985م وتولى بعد الفترة الإنتقالية التي استمرت عاماً واحداً حكومة إئتلافية بين حزب الأمة والإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية لم تنل تلك الحكومة المدنية الديوقراطية قبولاً من البيت الأبيض الأمريكي بسبب التباين الكبير في الرؤى السياسية بين المؤتلفين حيث كان زعيم الجبهة الاسلامية يمثل الاسلام السياسي وهو غير مرحب به في السياسة الأمريكية وحزب الأمة كان يبدي ميولاً تجاه الحكومة الإيرانية
حتى إن رئيس الوزراء الصادق المهدي قام بزيارة لإيران قامت طهران بمكافأته عندما وافقت على فك الأسرى السودانبين المتطوعين للقتال لصالح العراق أبان الحرب الإيرانية العراقية وهبط الأسرى لمطار الخرطوم في طائرة رئيس الوزراء الصادق الذي يعتبر تلك الخطوة نصراً سياسياً له وإن كان محدودة وتكلفتها الاستراتيجية كانت كبيرة .
حكومة البشير وأمريكا
لم تتحسر الولايات المتحدة على سقوط النظام الديمقراطي المدني المكون من الثنائي حزب الأمة والإتحادي الديمقراطي بعد انسحاب الجبهة الاسلامية التي كانت تخطط للاستيلاء على السلطة ونجحت بالفعل في الثلاثين من يونيو 1989 غير إنه رغم إرتياح البيت الأبيض الأمريكي بسقوط الحكومة المدنية لكنه لم يكن بطبيعة الحال سعيد باستيلاء جماعة تمثل الاسلام السياسي على السلطة في المنطقة العربية وزاد من جفوة التباعد بين الطرفين عندما إنتهجت حكومة الجبهة الاسلامية بقيادة البشير وزعيمها (الكارزمي) د. حسن الترابي سياسة اسلامية تقربت فيها مع التيارات الاسلامية (الراديكالية) حيث كان الترابي يتقمص الدور الريادي للحركات الاسلامية السياسية في المنطقة ، ثم ساءت العلاقة أكثر حيث إتهمت نظام الخرطوم بتدبير أعمال إرهابية مثل تدمير المدمرة كول وإيواء إرهابيين في السودان بالإضافة إلى تورط النظام السوداني في محاولة إغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا علاوةً على الإنتهاكات الجسيمة التي قام بها النظام في دارفور من قتل وتهجير ، مما دعا الحكومة الأمريكية فرض عقوبات إقتصادية صارمة على النظام علاوةً عقوبات فردية على رموز النظام ، وحين إشتدت وطئت العقوبات على حكومة البشير حاول التقرب من الولايات المتحدة بمد جسور التعاون معها على صعيد مكافحة الإرهاب المتمثل بحسب رؤية واشنطن في الاسلام المتشدد حيث مدت الخرطوم جسر مع المخابرات الإمريكية قاده رئيس المخابرات السوداني صلاح قوش ، وأشارت المصادر إن النظام سلّم عدداً من الاسلاميين المطلوبين للولايات المتحدة كما تعاون مع واشنطن في مجال ما يعرف بمكافحة تجارة البشر ثم ذهب نظام البشير بعيداً لنيل الرضا الأمريكي عندما قام في السنوات الأخيرة من حكمه بقطع العلاقات مع إيران وقفل كل المراكز الدينية التابعة لها كما شارك في حرب اليمن مع دول التحالف التي تقودها السعودية لمقاتلة حكومة الحوثيين في اليمن المدعومين من إيران .
وقد أحدثت تلك الخطوات ليناً محدوداً وقبولاً حذراً من الولايات المتحدة الأمريكية فلم تقدم لحكومة البشير أي دعم أو تخفيف للعقوبات المفروضة عليها
العلاقات في عهد حكومة الثورة
وبعد قيام ثورة ديمسبر وتكوين حكومة مدنية مشتركة بين المدنيين والعسكريين رحبت الولايات المتحدة بالتغيير لكنها في عهد الرئيس ترامب لم تكن متحمسة للتحول الديمقراطي حيث كانت تفضل التعامل مع المكون العسكري في الحكومة سيما بعد أن لاقت صدوداً من المدنيين تجاه خطوات التطبيع التي قام بها رئيس مجلس السيادة الفريق أول البرهان بعد زيارة سرية ومفاجئة لدولة يوغندا إلتقى فيها برئيس الوزراء الاسرائيلي ثم قطعت الحكومة بزعامة الشق العسكري خطوات مقدرة في مجال تطبيق العلاقات مع إسرائيل وهي خطوات كان لها لما بعدها بعد إنقلاب المكون العسكري برئاسة البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي على الحكومة المدنية التابعة لمنظومة الحرية والتغيير إحدى روافد ثورة ديسمبر ذلك لأن الولايات المتحدة رغم حرصها على تتشكيل حكومة مدنية لكنها تصر على الشراكة مع العسكر برئاسة البرهان حيث أن هذه الخطوة تجد دعماً من الحكومة الإسرائيلية فالولايات المتحدة كانت تريد الإبقاء على د. حمدوك الذي تعتبره من العناصر المعتدلة والمتبنية للنهج (الليبرالي) في مقابل قوة مدنية (راديكالية) ترفض التقارب مع الولايات المتحدة والنهج الإقتصادي الرأسمالي المرتكز على التعاون مع المؤسسات الدولية بنهج يعمل على تشجيع القطاع الخاص ويحد من هيمنة الدولة على حركة الإقتصاد ، من هنا فأن تصريحات المسؤوليين الأمريكيين كانت ملتبسة حيث ظلت تدعو إلى تكوين حكومة مدنية تجد توافقاً سياسياً لكنها لم تقطع تماماً الطريق على العسكر من القيام بتلك الخطوة حتى وإن تمت في إطار إتفاق مدني لا يمثل القاعدة السياسية المؤثرة لكنها في ذات الوقت تجد صعوبةً في تحقيق وفاق وفق تلك المطلوبات في ظل ثورة الشباب الرافضة للشراكة مع العسكر ولهذا رأت الولايات المتحدة خاصة بعد ضغوط من نواب في الكونغرس الأمريكي الذين إنتقدوا مسلكها في التعامل مع أزمة السودان المتمثلة فيما يرونه من إرتكاب أعمال عنف مفرط تجاه المدنيين يتطلب إتخاذ موقف أشد تجاه العسكر بينما لم تتحمس واشنطن للعقوبات في تلك المرحلة حتى لا تفسد مساعيها لإنتزاع تنازلات مؤثرة من العسكر في الخرطوم
مقترحات متوقعة من المبعوث الجديد
عينت الولايات المتحدة، الخميس الماضي، الدبلوماسي المخضرم ديفيد ساترفيلد، مبعوثاً لأزمة السودان وإثيوبيا الذي ربما يدفع بمقترح بحل مجلس السيادة تماماً ويبقى البرهان في قيادة الجيش والإبقاء مؤقتاً على قوات الدعم السريع والتفاكر في كيفية دمجها داخل القوات المسلحة والإبقاء على إتفاق جوبا وأن تتعهد الولايات المتحدة بكل تكاليف عملية الترتيبات الأمنية بعد إقناع الحركات المسلحة بتلك الخطوات وضرورة إبتعادها عن تشكيل حكومة التكنوقراط وترك إية تعديلات على إتفاقية السلام للمجلس التشريعي القادم والمكلف بوضع قانون للإنتخابات وإجازة قرارات المؤتمر الدستوري و أن تتم تبعية جهاز الأمن والشرطة تحت إشراف الحكومة المدنية التي يتم التوافق عليها بين القوى السياسية المختلفة سيما قوى الثورة على أن تكون حكومة كفاءات مستقلة غير إن هذه المقترحات من الصعب أن يقبل بها رئيس مجلس السيادة ونائبه لأن ذلك يعني إبتعادهما من المشهد السياسي وهو أمربالطبع لن يجد الترحيب به غير أن واشنطن قد تحاول فرض تلك الرؤية التي من المتوقع أن تجد القبول من مكونات الثورة السياسية بما فيهم الثوار المحتجين بإعتبارإن تلك الخطوة تعني أنهم حققوا حلمهم في بسط الحكم المدني كامل الدسم .
التعليقات مغلقة.