بروفيسر محمد حسين سليمان ابوصالح يقدم رؤية للخروج من الأزمة
قبل فوات الأوان
أ.د. محمد حسين أبوصالح
يشير الواقع الراهن وبوضوح لإخفاق السلطة، فبدلاً من أن تصبح الفترة الانتقالية مسرحاً لتعزيز الإرادة الوطنية وتخطي الأزمة والتأسيس لمستقبل زاهر للسودان، فقد تحولت لمنصة شهدت ولا تزال تشهد محاولات لتخطي الإرادة وتمرير أجندات ضيقة داخلية وخارجية، لا صلة لها بالأهداف التي قامت من أجلها الثورة، مع تدهور في الأداء والخدمات وارتفاع غير مسبوق للأسعار وانفلات أمني هنا وهناك.
إن كثافة التدخلات الخارجية التي جرت في ظل الفراغ الذي حدث بعد سقوط نظام الإنقاذ مقروناً بضعف الوعي الوطني والاستراتيجي وعدم إدراك كثير من الفاعلين في المسرح السياسي للمشهد الكلي حول السودان المتمثل في الصراع الاستراتيجي الدولي في الإقليم، مقروناً بغياب الرؤية والضعف المُخِل للنظام المؤسسي للدولة وسلبية جانب كبير من السلوك والفعل السياسي للسلطة الانتقالية، ساعد في تطبيق متسارع لسياسة الفوضى الخلاقة ( Creative Chaos) وعلم صناعة الأزمة ( Crisis Industry ) وهي من الأدوات المستخدمة في إدارة الصراع الاستراتيجي، حيث تجري محاولات حثيثة لإعادة هيكلة الدولة وفق مرجعيات خارجية، قد تنتهي بتفتيت السودان في اطار ما يعرف بسايكس بيكو ( 2 ) التي يتم السعي لتطبيقها في الإقليم.
الانزلاق نحو الفوضى:
نحن نقترب بشدة من الانزلاق الأمني والفوضى، التي قد تمهد لتدويل الشأن السوداني بشكل كبير، وقد حذرنا مراراً وتكراراً من خطورة الوضع والتعقيدات المحيطة بالوطن في ظل الهشاشة السياسية، ولعل كثيرين منا غير قادرين على استيعاب حقيقة اقترابنا من واقع مرير قد نفقد فيه نعمة الأمن، نخشى فيه على أعراضنا وممتلكاتنا، كثيرين غير قادرين على استيعاب أنه قد يصبح يوماً لا يصرف فيه راتبه، ولا يجد مشفى لعلاجه ولا مدرسة لأطفاله، بل قد لا نجد وطنا نصطرع عليه ولا كراسي سلطوية نتحاصص حولها.
ترى أين ستهاجر بناتنا واين سيذهب أولادنا. ؟ . هل إلى الجنوب غير المستقر ؟ أم إلى اثيوبيا التي تعاني من الحرب؟ أم إلى غرب إفريقيا حيث يتشكل مسرح جديد للأزمة، أم نركب السمبك ونتجه نحو المجهول ؟
اندلعت الثورة وسقط النظام وفقدنا عدة مئات من الشهداء، لكن هل تدركون ماذا تعني الفوضى والإنزلاق الأمني، أنه يعني الرعب والموت بعشرات وربما مئات الآلاف ونزوح وهجرة الملايين، دونكم سوريا ورواندا واليمن والعراق وليبيا..
نحن أمام لحظة فارقة إما نحافظ على السودان أو الذهاب نحو المجهول..
متى نستفيق ؟ هل بعد ان يموت مئات الالاف وتنتهك الأعراض .ويهاجر الملايين ؟ أم بعد أن نتفتت إلى دويلات ؟ كم ننتظر من دمار مادي ومعنوي حتى نستفيق ونعي الدرس؟.
نحن أمام خيار واحد فقط وهو أن ننجح في تلافي الأزمة، بإعمال الحكمة وصوت العقل، الشئ الذي يقتضي إزالة أسباب الازمة دون اعتبار لأي مصالح تنظيمية أو شخصية ضيقة.. كما يقتضي التوقف عن النفاق السياسي والأجندات الضيقة، فجميعنا يعلم أنه لا توجد جهة مفوضة من الشعب السوداني .. لا حزب ولا تنظيم ولا حركة مسلحة للتفاوض بإسمه.. علينا الاتجاه لحوار سوداني حر وشفاف لا يمنح سلطة وإنما ينتج رؤية تعبر عن الوجدان وعن تطلعات الناس بكل تنوعهم بدلاً عن التحايل المستمر لتخطي إرادة الشعب السوداني بحيل وطرق مختلفة .. وأن يستوعب الجميع أن الطريق للسلطة هو الشعب السوداني عبر صندوق الانتخابات.
يجب علينا إدراك أن المدخل للحل يتوقف على توفر الثقة في السلطة الانتقالية، لذا نحن في حاجة لإدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية بسلطة تنال قبول غالب الشارع، تتشكل من كفاءات مستقلة تتمتع بالكفاءة والخبرة والإخلاص ، تعمل وفق برنامج وطني محايد يُعلى مصلحة الوطن والأمن القومي، تستعيد السيطرة، تمارس سلوكاً وفعلاً سياسياً راشداً وناضجاً وحكيماً يطفئ الفتنة، يوحد المشاعر والوجدان يعيد الأمل ويحقق الالتحام الوجداني مرة أخرى ، وهذا بالضرورة لا يتاتى من سلطة سياسية أصبحت مكان خلاف واستقطاب.
كما يجب إدراك أن تحقيق التحول الديمقراطي لا يمكن ان يتم من مسرح سياسي يسوده العنف والاستقطاب.
إن المدخل الذكي لوقف الانزلاق الأمني وتلافي خطورة التدخلات الخارجية والهشاشة السياسية، وتعريض البلد لخطر الابتزاز والقرارات الفردية، والتي تستخدم كثير من الملفات والثغرات، يتمثل في استيفاء والتطبيق الجاد لعدد من الترتيبات، أهمها :
1. تأسيس برلمان من غرفتين ( شعبية ومهنية ) تضم الغرفه الأولى ممثلين للثوار من سودانيين أماًَ وأباً، تنطبق عليهم الكفاءة والأمانة والإخلاص، وغرفة ثانية تفرضها طبيعة تعقيدات الصراع الدولي، والتي تتطلب وجود خبرات مهنية عالية خلال فترة الانتقال، وفي ذلك اعترافاً بالنضال الفكري للمهنيين.
2. استدعاء السلطة العلمية من خلال تأسيس مجلس خبراء السودان كذراع داعم للتخطيط والقرار للسلطة الانتقالية.
3. تأسيس العقل الاستراتيجي للدولة ( منظومة الأمن القومي )
4. تفعيل مجلس الامن والدفاع ليتولى مهام الأمن والدفاع.
5. إعمال المؤسيسة وتأمين مركز صناعة القرار الاستراتيجي وتأسيس السلطة الوطنية للحوكمة
6. تطبيق مبدأ الشفافية في كل نشاط الدولة وتأسيس مفوضية النزاهة ومكافحة الفساد .
7. تنفيذ خطة عاجلة لحل الأزمة الاقتصادية تتجه نحو الداخل، تستنهض قوتنا الذاتية. ويمكن الاستفادة من الخطة العاجلة التي وضعها بيت الحكمة في هذا الخصوص.
8.الإسراع بتنظيم الحوار السوداني الحر بمشاركة شعبية لا تقصي أحداً ومشورة علمية تستنطق خبراء وعلماء السودان، للوصول لرؤية تحدد الفلسفة والمصالح والغايات والقيم الوطنية ونظام الحكم، تبلور الإرادة الوطنية وتؤسس للمسار السوداني نحو المستقبل، تتم إجازتها عبر البرلمان المنتخب والاستفتاء الشعبي، وإلى ذلك الحين يمكن التوافق على ميثاق وطني.
شراء المستقبل:
لوقف نزيف الدم المستمر منذ عقود لابد من طي صفحة الماضي وما يتعلق بها من مرارات وانتقام وفتح صفحة جديدة لتأسيس دولة القانون والعلم والمؤسسات، عبر تنظيم مؤتمر للتسامح الوطني يتم عبره التجاوز الحكيم لمرارات وأخطاء الماضي والاعتراف بأخطائنا تجاه بعضنا البعض، والتي غالباً ما يجعل كثير من الفاعلين في الساحة السياسية غير جادين أو غير قادرين لتحقيق ذلك لارتباط بعضهم بتلك الأخطاء والمرارات
9. إجراء الانتخابات الحرة النزيهة .
اللحظة الفارقة :
نحن أمام لحظة حاسمة تستوجب الإخلاص وعلو مصلحة الوطن وصحوة الضمير ونبذ الإنانية والسمو فوق الإنتماءات الجهوية والعرقية والحزبية نحو سماء الوطن،
لماذا تضطر السلطلة للتغيير واتخاذ القرارات الصعبة فقط عند حدوث التهديد العسكري أو التظاهرات الحاشدة أو التهديدات الدولية؟ أما آن الآوان للتصرف الصحيح وفقاً لحيثيات المنطق والعلم والمصلحة الوطنية؟
إذا كان هناك من ضحى بروحه من أجل الوطن، فإن ( مجرد التوقف ) عن تمرير الأجندات الشخصية والحزبية والمحاصصات واللهث خلف كراسي السلطة أو البقاء فيها، والسماح للعبور بتفكير ومنهج جديد نحو المستقبل، سيكون هو (التضحية المطلوبة) الآن من الفاعلين في الساحة السياسية.
التعليقات مغلقة.