عثمان ميرغني يكتب السودان.. متلازمة الساسة والخبراء، من أفشل من؟

52

 

المهندس يحيى عبدالمجيد _ رحمه الله_ واحد من أنجح الذين تولوا منصب وزير الري في سبعينيات القرن الماضي بالسودان، بعد خروجه من الوزارة اختارته الأمم المتحدة ليترأس ويشرف على تنظيم أكبر مؤتمر دولي حول المياه. سافر إلى نيوريورك واتخذها مقرا لرحلاته المكوكية في مختلف عواصم وقارات العالم على مدار عام كامل حتى أكمل المؤتمر على خير وجه، ووجد إشادة مستحقة من الأمم المتحدة.

في اليوم الأخير للمؤتمر بنيويورك وصلته برقية مستعجلة عبر سفارة السودان تطلب منه العودة فورا إلى الخرطوم بناء على طلب رئيس الجمهورية آنذاك، جعفر نميري، وفعلا غادر نيويورك على وجه السرعة تلفه الحيرة حول هذا الاستدعاء الرئاسي العاجل.

وصل مطار الخرطوم قبيل منتصف الليل فوجد السيارة الرئاسية تنتظره لتقله مباشرة إلى القصر الجمهوري. وحكى الوزير يحيى عبد المجيد كيف كان الصمت والسكون يحيطان بالقصر عند دخوله لدرجة انتابه إحساس أن لا وجود لأحد في مثل هذه الساعة المتأخرة، لكنه فوجئ بالرئيس نميري ينتظره بمكتبه ليفضي إليه بالسبب الذي من أجله كان الاستدعاء العاجل وقطع مهمته في الأمم المتحدة.

قال له نميري؛ إنه سعيد بنجاحه في الأمم المتحدة ولهذا قرر أن يعهد إليه برئاسة المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي بالسودان _وهو التنظيم السياسي الرسمي الوحيد ويترأسه نميري شخصيا_ ولم تنفع حجج الاعتذار عن المهمة التي قدمها الخبير المختص في الري والمياه، وأصر الرئيس على تكليفه برئاسة المؤتمر العام _السياسي_ الذي يستغرق نحو شهر كامل.

وهكذا في لحظة قرار رئاسي تحول المهندس يحيي عبد المجيد من خبير دولي في المياه إلى خبير حزبي سياسي!.

هذه القصة تقدم صورة بالأشعة المقطعية لمنهج الحكم الذي جعل دولة مترفة بالموارد مثل السودان غير قادرة على استنطاق خيراتها وتوفير حياة أفضل لشعوبها، عندما يتمدد منهج التفكير السياسي ليختزل أدوار الخبراء في خدمة السياسة والساسة.

لكن سؤال المليون دولار؛ هل العلة في الساسة أو الخبراء؟ بعبارة أخرى مَنْ أفشل مَنْ؟ هل تغول الساسة أفشل الخبراء في عملهم وتخصصاتهم؟ أو أن استجابة الخبراء لتغولات الساسة هي التي أفشلت الطرفين معا، الساسة والخبراء؟.

هذا السؤال طرحته على عدد كبير من الخبراء المعروفين في السودان الذين تولوا مناصب وزارية في مختلف العهود السياسية، وطرحته أيضا على الساسة الذين أتوا بالخبراء ليتولوا المناصب الوزارية.

الإجابات سارت في اتجاهين متضادين، الساسة قالوا إن ”الخبراء هم الجحيم“ حسب قول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ”الآخرون هم الجحيم“ فالخبراء لا يعترضون عندما تُعرض عليهم المناصب الوزارية، وبعد أن يجلسوا على كرسي الوزارة بدلا من رفع درجة التخطيط والتنفيذ إلى مستوى مداركهم العلمية وخبراتهم، يستسهلون القرارات السياسية فيتجاهلون خبراتهم ويعولون على نار السلطة لا نور المعرفة.

أما الخبراء فيجيبون عن السؤال؛ أنهم محاصرون ومحددون بحدود معرفة وعقلية السياسي، الذي يعتبر الركون إلى الخبرة والعلم ترفعا وتكبرا على مقام السلطة السياسية.

في تقديري؛ الأمر يتوقف على حسن ترسيم الملعب العام، ما للسياسة للسياسة، وما للإدارة للإدارة. في كتابه بعنوان ”حالة إنكار“ سرد الصحفي الأمريكي الشهير ”بوب ودورد“ قصة عقيد بالجيش الأمريكي يعمل بوزارة الدفاع، طلب منه وزير الدفاع ”رامسفليد“ أن يطلعه على تقرير عسكري خلال حرب العراق فرفض العقيد بحجة أن الوزير مدني لا يحق له الاطلاع على أسرار عسكرية، لم يستطع الوزير طرده أو فصله كل الذي فعله أن الوزير التمس من الرئيس الأمريكي جورج بوش تعديل اللوائح لتمكينه من الاطلاع على مثل هذه التقارير المهمة.

ترسيم خطوط الصلاحيات والسلطات بصورة واضحة _عبر القوانين واللوائح_ أشبه بترسيم الطرق السريعة بخطوط واضحة وحاجز يفصل المسارين ليمنع تصادم السيارات.

ومن هنا يبدأ حل عقدة متلازمة الساسة والخبراء بالسودان.

التعليقات مغلقة.

error: Content is protected !!